ثقافة

أحزان أكبر مدينة عربية سردية تحولات “القاهرة المتنازع عليها”

على الرغم من أن القاهرة كانت تتمتع بالغنى والمجد في الربع الأول من القرن التاسع عشر، إلا أنها بدأت تظهر بمظهر يئن تحت وطأة مشاكل متراكمة منذ التسعينيات من القرن العشرين. هذه المشاكل، والتي تشمل أمراضاً متراكمة نتيجة لحوادث تاريخية متعددة، جعلت العاصمة المصرية تبدو مترهلة ومثقلة بالتحديات.

منذ ذلك الزمن، تفاقمت مشاكل المدينة وأصبحت صعبة التلافي باستخدام الحلول التقليدية، مما جعلها محل تنازع بين أطراف عدة.

المشاكل البنيوية التي تعاني منها المدينة التاريخية، والتي كان لها دور ثقافي وسياسي بارز في العالم الإسلامي لقرون، تمت مناقشتها وتشخيصها في كتاب بعنوان “القاهرة المتنازع عليها”، الذي أعده “دايان سينجرمان” وترجمه يعقوب عبد الرحمن، وأصدره المركز القومي للترجمة بالقاهرة مؤخراً.

يتناول الكتاب التحولات الكبرى التي شهدتها القاهرة، ويحاول الإجابة عن أسئلة تتعلق بتغير المزاج الفكري والثقافي للمصريين، وتأثير وسائل الاتصال الحديثة على النسيج الاجتماعي، وكيفية تعامل المصريين مع واقعهم المتغير بسرعة وببطء، بالإضافة إلى كيفية حدوث عمليات الدمج الجماعي للغرباء وتوليد العنف.

يشير الكتاب، الذي يتألف من 450 صفحة ويضم 17 فصلاً، إلى أن “الليبرالية الجديدة” تزيد من الفوارق الطبقية وعدم المساواة بين المصريين، وتثير الصراعات. كما يرى أن السياسات الاقتصادية الخاطئة أدت إلى جعل الأراضي أكثر سهولة في البيع والشراء والإيجار، وأصبحت المضاربة في العقارات شائعة، مما أدى إلى زيادة الاختلافات المكانية في المدينة بين المجمعات السكنية الحديثة ذات الأسوار المغلقة والمجمعات القديمة والعشوائية.

ويتناول الكتاب أيضاً تأثيرات العولمة على المدينة العملاقة، وكيف أن تدفق العمالة ورأس المال والمعلومات يؤثر في إعادة تشكيل حدود المدينة وبنيتها الاقتصادية والمشهد الحضري لسياساتها وشكلها المادي.

ويطرح الكتاب مزيداً من الأسئلة حول تأثير “الليبرالية الجديدة” على تقليص الخدمات العامة وتشجيع خصخصة السلع، وكيف يكافح القاهريون بيئة بيروقراطية معقدة، حيث الشرعية ميزة في متناول القلة المقربة من السلطة بينما يعاني الغالبية العظمى من آثار مثل هذه السياسات.

ويركز الكتاب أيضاً على موقع مؤسسة الأزهر ودورها المتزايد في التوتر مع السلطة الحاكمة، وكيف تحاول السلطة السيطرة عليها وتوجيه خطابها لخدمة مصالحها.

هذه المحاولات للسيطرة على مؤسسة الأزهر تأتي على خلاف ما كانت عليه في العصور الماضية، حيث كانت تُصوَّر علماء الأزهر كأصحاب مهام اجتماعية واسعة، رغم تراجع دورهم الفكري في نهاية القرن الثامن عشر. ويرى المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي أن سلطة العلماء قد ضعفت مع تراجع مساهمتهم في الحكم.

بالمقابل، يستمر الكتاب في استعراض كيف أن الحكومة تسعى جاهدة لتحويل المناطق العامة والأسواق تحت مزاعم النمو والأمن والحداثة، بينما تعاني الطبقة الأكثر فقرًا من آثار هذه السياسات. تظل الشرعية ميزة متاحة للقلة المقربة من السلطة، في حين يعاني الأكثرية من تحمل أعباء تلك السياسات.

وبهذا، يقدم الكتاب نظرة شاملة ومعمقة لتحولات القاهرة، ويسلط الضوء على التحديات الهائلة التي تواجهها المدينة وسكانها في عصر العولمة المتسارعة والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية الجارية.

تعاني القاهرة من مشكلة الأحياء العشوائية التي تحيط بها من جميع الاتجاهات، وتمثل هذه المشكلة تهديداً كبيراً ينتظر الانفجار في أي لحظة. استحوذ الخطاب الإعلامي على هذه المشكلة، مما أدى إلى تشويه صورة سكان هذه الأحياء بصفات سلبية، بسبب اعتمادهم على أنفسهم لحل مشاكلهم، وخاصة مشكلات الإسكان والمرافق العامة، بموارد محدودة بعد تخلي الدولة عن دورها في هذا الصدد.

يبدو أن الجميع استغل دماء المدينة القديمة، إذ قام السكان الوافدون بتمزيق الأراضي الزراعية والبناء عليها، بينما تخلت الدولة عن عقدها الاجتماعي ودورها في حماية السلة الزراعية المهمة لتغذية سكان القاهرة.

وأظهرت دراسة للبنك الدولي أن 81% من التجمعات السكنية غير الرسمية كانت مبنية على أراض زراعية، بينما كانت نسبة الأراضي المبنية عليها في الصحارى تبلغ فقط 10%. وقد انخفضت مساحة الأراضي الزراعية بمقدار 1.2 مليون فدان منذ عام 1982 إلى عام 2004، مما أدى إلى ارتفاع نسبة السكان في الأحياء العشوائية لتصل إلى 65% من سكان القاهرة الكبرى، البالغ عددهم 10.5 ملايين نسمة من إجمالي 16.2 مليون نسمة.

سلط الكتاب الضوء على إهمال سكان الأحياء العشوائية وتجاهلهم، حتى ظهور تمرد حركات إسلامية عنيفة، مما دفعه لتتبع جذور وتطور “الجماعة الإسلامية” في منطقة عشوائية بحي إمبابة خلال تسعينيات القرن الماضي.

وتناول الكتاب أيضاً الطرق الصوفية “التي لا تهتم بالسياسة”، ورسم صورة حية ومشوقة لاحتفالات مولد السيدة نفيسة، حيث يتقابل نوعان مختلفان تماماً من أنماط الاحتفال في المولد، إذ تسيطر الدولة على وسط الميدان بشكل متزايد، بينما تسيطر الطبقات الشعبية على الشوارع الجانبية.

ويتناول الكتاب أيضاً كيفية تأثير الميول السياسية على الأنماط الاستهلاكية في مصر والعالم العربي، ومحاولات المواطنين في ممارسة تأثيرهم على القرارات السياسية، وكيف تجسدت هذه المحاولات في حركة المقاطعة كنوع من النزعة السياسية التي طورتها مصر وأطرتها في إطار المشاعر المعادية للعولمة والحروب في مطلع الألفية الجديدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى