إمبراطورية المال الهولندية عصر ذهبي وماض استعماري مظلم
من شواطئ جزر الهند الشرقية إلى الشواطئ الذهبية في الكاريبي، ومن العمق الأفريقي النابض بالحياة إلى القارة الجديدة، أبحرت السفن الهولندية جيئة وذهاباً في مهمة استعمارية استمرت نحو أربعة قرون، شارك خلالها الهولنديون في رسم ملامح العالم الحديث جنباً إلى جنب مع غيرهم من الدول.
بدأ الاستعمار الهولندي رسمياً في أوائل القرن السابع عشر بتأسيس شركة الهند الشرقية الهولندية عام 1602 وشركة الهند الغربية الهولندية عام 1621، واستمر حتى أواخر القرن العشرين مع فترات من التوسع والانكماش.
خلال القرن السابع عشر، توسعت الإمبراطورية الهولندية بسرعة. ففي جنوب شرق آسيا، فرض الهولنديون سيطرتهم على جاوة، وجزر التوابل (جزر الملوك)، وأجزاء من سومطرة وبورنيو، بالإضافة إلى أجزاء من ماليزيا وتايوان وسريلانكا وسيلان. وأسسوا مستعمرات في منطقة البحر الكاريبي مثل أروبا وسورينام، وسيطروا لفترة على أجزاء من البرازيل، كما أنشأوا مستعمرة نيو نذرلاند في أمريكا الشمالية، التي شملت أجزاء من ولايات نيويورك ونيوجيرسي وديلاوير وكونيتيكت الحالية.
في أفريقيا، أسس الهولنديون مستعمرة كيب في جنوب أفريقيا الحالية، والتي أصبحت محطة إمداد حيوية للسفن المتجهة إلى آسيا ومنها، بالإضافة إلى ساحل الذهب الهولندي (غانا). كما أنشأوا عدة مراكز تجارية على طول ساحل غرب أفريقيا، بالإضافة إلى مراكز تجارية في إيران ومناطق أخرى في العالم.
العمود الفقري للاستعمار الهولندي
لعبت شركتا الهند الشرقية والغربية الهولنديتان أدواراً محورية في الاستعمار الهولندي، فقد احتكرت الشركة الشرقية التجارة مع آسيا، وأنشأت شبكة من المراكز التجارية والحصون في جميع أنحاء المحيط الهندي. وبالمثل، كان الهدف من شركة الهند الغربية إنشاء مستعمرات هولندية في الأمريكيتين وأفريقيا. ورغم أنها كانت أقل نجاحاً من الشركة الشرقية من حيث الاستحواذ على الأراضي، فإنها لعبت دوراً حاسماً في استعمار أمريكا الشمالية وأجزاء من أفريقيا.
كانت شركة الهند الشرقية من أوائل الشركات المتعددة الجنسيات في العالم وأكبر جهة توظيف في عصرها، إذ امتلكت قوة بحرية هائلة. وبحلول عام 1670، بلغ إجمالي حجم الشحن البحري التجاري الهولندي نحو نصف الإجمالي الأوروبي.
وفي نهاية القرن الثامن عشر، بلغ العدد الإجمالي للسكان تحت السيطرة المباشرة للوكلاء الاستعماريين الهولنديين نحو 10 ملايين شخص. كان المحرك الرئيسي للاستعمار الهولندي هو المكاسب الاقتصادية، ومن خلاله يمكن فهم السلوك الاستعماري الهولندي عموماً. لخدمة ذلك، قاموا بإنشاء مواقع ومستعمرات استراتيجية في مختلف البلدان.
اعتمد الاقتصاد بشكل كبير على تجارة التوابل “ذهب جزر الهند”، والسكر “الذهب الأبيض”، وجوزة الطيب “الذهب البني”، إضافة للبن الذي تمكن الهولنديون من تهريبه من السلطة العثمانية لزراعته في الهند، وحصدوا أول محصول من القهوة في جاوة (إندونيسيا).
تطلبت المشاريع الزراعية العمالة الأفريقية، فنشطت تجارة العبيد. في البداية، تردد الهولنديون البروتستانت في الدخول لتلك التجارة، إذ أشار أحد القساوسة إلى ذلك على أنه “انحراف بابوي” ارتكبه الإسبان والبرتغاليون. ولكن مع توسع الاستعمار، بدأت المواقف تتغير، مما أدى إلى تحول في الرسالة التي تنشرها الكنيسة، فبحثوا عن قصص في الكتاب المقدس لإضفاء الشرعية على العبودية.
ماض استعماري مظلم
رغم أن القرن السابع عشر عُرف بـ”العصر الذهبي الهولندي” حيث تجمعت كميات غير مسبوقة من الثروات في الجمهورية الهولندية وازدهرت الحياة الفكرية في مدن مثل أمستردام، ورسم فنانون مثل رامبرانت فان راين روائع فنية، إلا أن وراء ذلك حقيقة مظلمة. حقق العديد من الهولنديين ثرواتهم من خلال استغلال واستعباد شعوب أخرى.
على مدى أكثر من 300 عام، استعبد التجار الهولنديون ملايين الأشخاص حول العالم ونقلوهم قسراً. اختُطف البالغون والأطفال من مناطق مختلفة في أفريقيا بواسطة تجار العبيد في ظروف مروعة ونُقلوا إلى المستعمرات الهولندية، حيث أُجبروا على العمل عبيداً في المزارع. لم تُستثن الشعوب الأصلية في المستعمرات الهولندية من الاستعباد أيضاً.
كان الأثر الاقتصادي لتجارة الرقيق في المحيط الأطلسي على الاقتصاد الهولندي كبيراً. ففي عام 1770، شكلت الأنشطة الاقتصادية القائمة على العبيد 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي للجمهورية الهولندية، وبلغت نسبة الواردات والصادرات من السلع الهولندية التي ينتجها العبيد 19% على أقل تقدير.
فرض الهولنديون ضريبة الأرض وقرروا نوع المحاصيل وكميتها. أوجبوا على الفلاحين الجاويين تسليم خُمس محاصيلهم إلى الهولنديين مقابل تعويض نقدي ثابت وضئيل لا يرتبط بقيمة المحصول في السوق العالمية. بلغ إجمالي دخل الدولة الهولندية من المستعمرة الجاوية في بعض السنوات نحو 33%.
ارتفع معدل الوفيات في المزارع، وانتشرت الأمراض المعدية بسبب المناخ الاستوائي إلى جانب العمل الشاق واللاإنساني. في الحالات التي كان فيها علاج العبد المصاب يكلف السيد كثيراً من المال، كان يتخلى عنه ليموت أو يطلق النار عليه. في الحالات الميؤوس منها، كانوا أحياناً يأخذون العبيد إلى الغابة ليتم اصطيادهم من قبل أسيادهم وأصدقائهم من باب الصيد الترفيهي. حملت هذه المزارع أسماء رومانسية مثل مدينة الورود “روسنبيرغ”، والسلام الطيب “غود فريد”.
كان العمل في المطحنة أو المطبخ أكثر خطورة. يعد إرسال العبيد للعمل فيها نوعاً من العقاب، إذ كانوا يسقطون على عجلة المطحنة أو في القدور التي يُغلى فيها السكر. بالإضافة للعمل في حظائر مغبرة وشرب المياه الملوثة، انتشرت أمراض الرئة التي زادت من أعداد الوفيات بين العبيد.
مجازر إندونيسيا
في عام 1621، خلال الاستعمار الهولندي لجزر باندا في إندونيسيا، رأى جان بيترزون كوين، المسؤول عن عمليات شركة الهند الشرقية الهولندية، أن تجارة جوزة الطيب ستكون أسهل إذا تمكن الهولنديون من إخلاء سكان باندا واستبدالهم بمستوطنين مرتبطين بالشركة. قام جنود كوين باستعباد جميع سكان الجزر البالغ عددهم 15 ألف نسمة تقريباً، وقتلوا العديد منهم وطردوا آخرين. بحلول نهاية الحملة، بقي فقط نحو ألف إلى ألفين من سكان الجزر.
في أواخر القرن التاسع عشر، كلف الغزو الاستعماري الهولندي لسلطنة آتشيه في سومطرة أرواح عشرات الآلاف من سكانها، وتشريد عشرات الآلاف الآخرين، وأدى إلى تدمير مئات القرى. في عام 1904، أصبحت القوات الهولندية مسؤولة عن قتل 5621 مدنياً إندونيسياً في قرية كوتا ريه، وفق بعض السجلات.
في عام 1945، بعد استسلام قوات الاحتلال اليابانية وإعلان استقلال إندونيسيا، حاول الهولنديون استعادة السيطرة على جاكرتا. استمر القتال بين البلدين منذ عام 1945 إلى 1949 تحت مسمى “عمليات الشرطة”، في إشارة إلى أنهم يعتبرون القتال في إندونيسيا مسألة داخلية تتعلق بالقانون والنظام. أما عمليات القتل ضد الثائرين، فقد كانت تُعتبر لفترة طويلة “تجاوزات” عرضية ضمن العمل العسكري المشروع، مما أسفر عن مقتل 150 ألف إندونيسي و5 آلاف هولندي.
تم قمع حركات المعارضة والتمرد عبر اتباع سياسة الأرض المحروقة. على مدى نحو 3 أشهر من أواخر عام 1946 إلى أوائل عام 1947، قتلت القوات الهولندية بقيادة الكابتن ريموند فيسترلينغ الآلاف من المدنيين في سولاويزي الجنوبية.
في التاسع من ديسمبر 1947، دخلت القوات الهولندية قرية رواوجاده الجاوية الغربية (التي تسمى الآن بالونغساري) لتطهير المنطقة. تتراوح التقارير عن أعداد الضحايا بين 150 (الرقم الهولندي) و431 (العدد الذي تعلنه السلطات الإندونيسية). جذبت هذه المذبحة اهتماماً كبيراً، إذ أجرت لجنة الأمم المتحدة تحقيقاً خلص إلى أن الإجراء كان “متعمداً وقاسياً”.
في عام 2017، تداولت الصحف الهولندية مقالاً بحثياً أشار إلى أن العدد الإجمالي للضحايا الإندونيسيين القتلى بين عامي 1945 و1949