ثقافة

دانشمند لأحمد فال الدين في حضرة وجوه أخرى للإمام الغزالي

عند قراءة روايات السيرة الذاتية، ننشغل قليلاً بمصادرها، ونبحث في خلفية الكاتب وأعماله السابقة، خاصة إذا كان المكتوب عنه رجل سياسة أو أدب. ولكن ماذا لو كان الموضوع عن عالم دين أثار اهتمام الأجيال؟ حينها تزداد التساؤلات حول الحبكة والإمتاع ومدى التداخل بين الواقع والخيال، وتأتي تجربة حياته الفريدة في مقدمة تلك التساؤلات.

“دانشمند” عنوان اختاره المؤلف أحمد فال الدين ليكون أول ما يلفت انتباه القارئ. هو لفظ فارسي يعني “عالم العلماء”، أي الأعلم بين العلماء. الرواية تسلط الضوء على حياة أبي حامد الغزالي، حجة الإسلام الفيلسوف والصوفي، وقبل كل شيء الإنسان.

وبعد العنوان المميز، يبدأ الكاتب روايته بفصل “الميلاد الثاني”، مما يثير تساؤلات القارئ عن الميلاد الأول وسبب اختيار الثاني. تبدأ الأسئلة تتداعى في رأسك، تماماً كما كانت تملأ عقل الغزالي وهو يقف على أبواب دمشق باحثاً عن ذاته.

“فكم عامًا رابط أمام قلبه ليفتحه؟ وأي أسوار في الأرض أمنع من أسوار القلوب؟ كم سنة راود نفسه ليقنعها بالسير إلى الكريم المتعالي؟”.

تلك كانت لحظة وداع الغزالي لعالم مليء بالعز والفخر والجاه، متوجهاً نحو عتبات الفقر والتضرع والتواضع، باحثاً عن حبل التعلق بالواحد.

وبدءًا من مشارف الأربعين، يعود الكاتب بنا إلى طفولة الغزالي، متنقلاً بين الطابران بخراسان، وتحصيل العلم في نيسابور، وصولاً إلى قصور بغداد الفاخرة.

الرواية توازن بين سيرة الإمام الغزالي ومراحل تكوينه الفكرية والمذهبية، وبين صراعات السلطة والحكم في زمانه. ينتقل الكاتب بين محطات مهمة في تاريخ الأمة الإسلامية، من بغداد إلى دمشق والقدس، متتبعاً رحلة الغزالي بقلبه وقدميه.

استطاع أحمد فال الدين أن يغوص في أعماق نفس الغزالي، ليصبح الصوت الداخلي للبطل محركاً رئيساً للأحداث. تُسمع ما يجول بخاطره، وتشعر بقلقه وتقلبه، وتتعاطف مع وجعه وهو يبحث عن يقين في فيافي بعيدة عن وطنه. تتمنى لو أنه التفت ليواسي أسرته قبل غيابه الطويل، لتتعرف على جانب خفي من حياته كزوج وأب وإنسان عادي.

ورغم التعمق في ذات الغزالي، لم يغفل الكاتب الأحداث التاريخية والسياسية من حوله، مما يجعل الرواية تجمع بين السرد التاريخي والإنساني بمهارة فائقة.

أحمد فال الدين جمع في روايته بين التأريخ والإمتاع بأسلوب متين وسرد سلس. ربما ساعدته تجربته في كتابة “الحدقي”، سيرة الجاحظ، على تحقيق هذا التوازن. ومع قراءة “دانشمند”، ستتعرف على محطات مهمة في حياة الغزالي وكتبه، من “تهافت الفلاسفة” إلى “إحياء علوم الدين” و”المنخول” و”المنقذ من الضلال”.

عندما تنهي الرواية، ستشعر بالحاجة إلى قراءة متأنية أخرى، لتتبحر في عالم الغزالي، وستجد أن 700 صفحة لم تكن كثيرة على هذا العالم الزاخر بالأفكار والأحداث.

أحمد فال الدين، كاتب وروائي موريتاني، صدرت له ثلاث روايات هي: “دانشمند” (2023)، “الشيباني” (2019)، و”الحدقي” (2018). كما نشر “حجر الأرض: صراع الغزاة والحماة في أفغانستان” (2021) و”في ضيافة كتائب القذافي” (2011).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى